بقلم لأستاذ الدكتور بشير جرار
تصدرت قضية التسمم الناجم عن تناول مشروبات كحولية تحتوي على مادة الكحول الميثيلي (الميثانول) السامة، اهتمامات الشارع الأردني والأوساط الإجتماعية، وسط ارتفاع في أعداد الإصابات، وصلت إلى 36 شخصًا وتسجيل 9 وفيات.
يستخدم الكحول المثيلي، المعروف أيضًا بـ الميثانول بالعديد من التطبيقات الصناعية والتجارية، إلا أنه سام للغاية، ولا يجوز استخدامه بديلاَ عن كحول الإيثانول الذي يستخدم بالمشروبات الروحية. يُستخدم الميثانول كمذيب عضوي في الصناعات الكيميائية كمذيب للدهانات، والورنيش، والأحبار، ومواد التنظيف، وكمصدر لطاقة نظيفة نسبيًا حيث يمزج مع البنزين لتحسين كفاءة الاحتراق. كذلك يُستخدم في الصناعات الدوائية والصيدلانية والتجميلية والعطور والبلاستيك والمطاط والمواد اللاصقة وفي إنتاج حمض الخليك وفي محاليل غسيل زجاج السيارات وشبابيك المنازل
وكمضاد للتجمّد في السيارات والطائرات. إضافة إلى أنه يستخدم بصناعة الألياف الصناعية وفي مختبرات الأبحاث كمادة أولية للعديد من التفاعلات.
عُزل الكحول المثيلي لأول مرة في القرن السابع عشر، وسُمي “wood alcohol”ولم يعرف قبل العصر الصناعيكمركب كيميائي منفصل، ولكن كان موجودًا بتركيزات ضئيلة في نواتج التقطير الخام للخشب. ولا توجد حالات موثقة لتسمم الميثانول قبل هذه الحقبة، ولكن من الممكن أنه كان سبباَ لبعض حالات التسمم غير المفسّرة بعد تعاطي “كحوليات مغشوشة. قد يسبب تناول كميات صغيرة من المثانول حتى 10-15 مل (سعة معلقة كبيرة) العمى ويتلف العصب البصري، والجرعات الأكبر قد تكون قاتلة، لذلك لا يجوز استخدامه في المشروبات الكحولية، أو الأغراض الطبية الموضعية على الجلد، أو كمعقم منزلي. وفيما يلي حصر بأشهر حالات التسمم بكحول الميثانول تاريخيًا بين الشعوب والحضارات المختلفة.
تفيد التقارير بأن آلاف الأشخاص يعانون من التسمم بالميثانول كل عام. وفي حال عدم علاج الإصابات، قد تصل معدلات الوفاة ما بين 20% إلى 40%، بحسب تركيز الميثانول السام والكمية المُستهلكة، ويُعتقد أن هذه الأرقام لا تعكس الوضع الحقيقي. وتُظهر الإحصائيات أن قارة آسيا تضم أعلى معدل للتسمم بالميثانول على مستوى العالم، مع شيوع حالات التفشي في دول بعينها مثل إندونيسيا والهند وكمبوديا وفيتنام والفلبين وأخرى غيرها.
وقدظهرت في القرن التاسع عشر بأوروبا حالات تسمم بسبب استخدام الميثانول في الأغراض الصناعية أو “الكحول الصناعي“، وتم استهلاكه أحيانًا خطأً أو غشًا على أنه مشروب كحولي. وكما شهدت الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة 1920-1933م واحدة من أشهر موجات التسمم بالميثانول في التاريخ. حيث لجأ البعض إلى شرب كحول مخصص للاستخدام الصناعي والذي كان يحتوي غالبًا على الميثانول. وقُدّر أن عشرات الآلاف توفوا أو أصيبوا بالعمى نتيجة التسمم بالميثانول خلال هذه الفترة. وكما سجل في دول أوروبا وأمريكا اللاتينية بعض حالات التسمم التي حدثت نتيجة تقطير منزلي غير آمن أو غش تجاري كمل حدث في جمهورية التشيك عام 2012م حيث توفي أكثر من 30 شخصًا نتيجة كحول مغشوش بالميثانول.
وكما شهد العديد من الدول العربية والإسلامية ودول الشرق الأوسط مثل إيران، مصر، ليبيا،الجزائر، العراق حالات تسمم جماعي بالميثانول في السنوات الأخيرة. وسجل في إيران عام 2020م أكثر من 700 وفاة بسبب شرب كحول ميثانولي بعد إشاعات خاطئة بأنه يعالج فيروس كورونا.
تم تسجيل حالات تسمم ميثانول جماعي في بعض الدول بمئات الوفيات في حالات جماعية (خصوصًا بين الفقراء) في كل من الهند أوغندا، كينيا، نيجيريا بسبب شيوع المشروبات الكحولية المغشوشة الذي أدى لوفيات متكررة. يحدث التسمم بالميثانول في الهند معظم الأحوال بسبب تناول الكحوليات المغشوشة أو غير المشروعة، والمستخلصة من خليط من قصب السكر أو الأرز المخمر. ولزيادة الربح، كثيرًا ما تُخلط الكحوليات بالميثانول، وهو بديل أرخص بكثير للإيثانول. وقد حدثت أكثر حالات التسمم فتكًا في تاريخ الهند في مدينتي جولاغات وجورهات بولاية آسام في عام 2019م إذ أُصيب أكثر من 500 شخص شربوا الكحول السام المهرب ، توفي منهم 168 شخصًا.
كذلك سجلت إندونيسيا في العقدين الماضيين أكبر عدد من حوادث التسمم بالميثانول المبلغ عنها في العالم، بسبب الخمور المهربة، المعروفة محليًا (ميراس أوبلوسان أو أراك (Arak)، وهو مشروب محلي مخمر بشكل غير قانوني ومصنوع من قصب السكر وزهرة جوز الهند والأرز. وقدراح العديد من السياح الأجانب على مر السنين ضحايا للتسمم بالميثانول بعد تناول أراك مقطر بطريقة غير صحيحة واحتوى على الميثانول في جزر بالي ولومبوك وجيلي. وتزداد حالات التسمم بالميثانول بين السكان المحليين بسبب الانتشار الواسع لإنتاج الخمور غير المشروعة.
وارتبط في كمبوديا التسمم بالميثانول عادةً بتقطير مشروبات نبيذ الأرز في المنازل، وهو جزء من الثقافة الكمبودية منذ آلاف السنين. حدثت إحدى أكبر حالات التسمم عام 2012، وتضمنت 49 حالة وفاة ودخول 318 شخصًا إلى المستشفيات. وكما تعد فيتنام أكبر مستهلك للكحول بين دول جنوب شرق آسيا. ويُقدّر أن 85% من الكحول في البلد منزلي الصنع، مما أدى إلى انتشار التسمم بالميثانول بهذا البلد الغش. وفي الفلبين، هناك مشروب معروف بالعامية “جن” ، والذي يعني “العمى” الناتج عن شرب الكثير من هذا المشروب المغشوش الممزوج بالميثانول أو سببًا شائعًا للتسمم بالميثانول في الفلبين.
توفي في ديسمبر من عام 2016م مالا يقل عن 75 شخصا في روسيا بسبب استخدام مشروبات بأسماء مختلفة كبديل للفودكا الغالية الثمن في المناطق الفقيرة. وتكرر ذات الأمر منذ عقود في حانات الخمور (وهي بيوت للدعارة بذات الوقت والمسؤلة عن نشر مرض الايدز) المقامة على طول درب الموت حتى جوانسبيرغ.
وقد شهد كاتب هذه السطور على وفاة طالبين من طلبة الماجستير في أحد الكليات العلمية لجامعة عربية عريقة بسبب جهلهم وتناولهم لكحول الميثانول (ظناً منهم أنه يفي بغرض كحول الأيثانول المسكر) الموجود بمختبر الأبحاث الذي كانا يدرسان به.
يتحول الميثانول في الجسم إلى حمض الفورميك شدديد السمية. وتظهر الفحوض الجسدية للمصاب تسارعا في التنفس وتوسعا في حدقة العين وزيادة في تدفق الدم إلى القرص البصري واستسقاء في شبكية العين . وتشمل أعراض التسمم بالميثانول انخفاضاً في مستوى الوعي وضعف القدرة على تنسيق حركات الجسم، وقيء، وألم في البطن ورائحة مميزة للنفس. وتعد أعراض ضعف الرؤية من أول الأعراض التي تظهر على الشخص من بداية تعاطي للميثانول، أما الأعراض طويلة المدى فتتمثل بالعمى والفشل الكلوي، ويمكن أن يصاب الشخص بالتسمم والموت حتى لو تناول كميات قليلة من الميثانول.