عندما تخون الخلايا – بقلم الأستاذ الدكتور بشير جرار

    استوحيت عنوان هذه المقالة من كتاب لمدير عام مركز الحسين للسرطان، الدكتور عاصم منصور، المعنون السرطان من المسافة صفر.. عندما تخون الخلايا، والصادر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، والمكوَّن من 678 صفحة. قدِّم هذا الكتاب رواية السرطان بنَصّية تشبه تأمّلات كاهن في معبد، حيث لم يتحدث عن الموت بل عن الحياة، أو الوجه الآخر للموت، ولم يتحدث عن الزوال بل عن الوجود والبقاء والأمل. كما قدّم سمات ودلالات ذات بُعد استراتيجي في الحرب على السرطان، مستخدمًا مفردات عسكرية ودلالات حرب حقيقية وساحة معركة لا تقلّ واقعية عن الحروب العسكرية، مثل: “المسافة صفر”، و”خيانة الخلايا”، إلى جانب مصطلحات تحمل معاني مثل مستوطنات اجتثاثية، ومستعمرات مسرطنة، وتمرد الخلايا، وانشقاقها، والنقاط العمياء، ومقاومة جهاز المناعة، وتمويه الخلايا السرطانية، وتخفيها وهجرتها وغيرها.

   تم توثيق السرطان لأول مرة على يد الطبيب الفرعوني إمحوتب، الذي عاش حوالي عام 2625 قبل الميلاد، حيث كانت رسائله بمثابة أول توصيف علمي لما يُعتقد أنه حالة سرطان. كما أرّخ المؤرخ الإغريقي هيرودوت لاحقًا، في كتابه الموسوعي عام 440 قبل الميلاد، قصة الملكة الفارسية أتوسا التي أُصيبت بسرطان الثدي. وسجلت الوثائق التاريخية إصابة الملكة الفرعونية حتشبسوت بالسرطان، حيث أثبتت الفحوصات الأحفورية عام 2007 أنها توفيت بسببه. ومن أشهر ضحايا السرطان في القرن السابع عشر، كانت آن، ملكة فرنسا ووالدة لويس الرابع عشر، التي أصيبت بما كان يُعرف حينها بـ”مرض الراهبات”. وقد بقي السرطان بلا اسم حتى أطلق عليه الطبيب الإغريقي أبقراط، في القرن الرابع قبل الميلاد، اسم (Cancer)  المشتق من الكلمة الإغريقية (Karakinos)  والتي تعني “سرطان البحر/السلطعون”، وذلك بسبب شكل الورم المتشعب المشابه لأرجل السرطان.
كما يجدر الإشارة إلى أن العالم الإسلامي الزهراوي ذكر سرطان الكلية بوضوح لأول مرة، مميزًا بينه وبين التهاب الكلية الحاد.

    الخلايا الخائنة هي خلايا مارقة في الجسم، انحرفت عن مسارها، وتمردت على قوانين الجسم والأنظمة التي حكمت مثيلاتها منذ الأزل. رفضت الانصياع لها، واختارت طريقًا لا يمكن التنبؤ بمساراته أو مآلاته. تنشَقّ هذه الخلايا عن صفوف الخلايا الطبيعية، وتنقسم وتتكاثر بجنون، رافضةً فكرة الموت، مستفيدةً من تشابه بنيتها مع خلايا الجسم الطبيعية، إلى حدّ التطابق، مما يجعلها بارعة في التمويه والتخفي والخداع، لتفادي دفاعات الجسم. تغزو مناطق جديدة في الجسد المنهك، وتنشئ مستعمراتها كما يفعل الغزاة عبر التاريخ. تنقسم، في كل لحظة، ملايين الخلايا داخل أجسامنا بدقة مذهلة، محافظةً على توازن الحياة. لكن، في أحيانٍ نادرة، تخون بعض الخلايا وتنقلب على نظام الجسم، وتتحول إلى عدوّ من الداخل. يُعرف هذا التمرد بـالسرطان، أحد أخطر أمراض العصر وأكثرها تعقيدًا.
   السرطان هو خيانة من خلايا يُفترض بها أن تحمي الحياة. وهو نمو غير طبيعي وغير منضبط للخلايا، يجعلها تتكاثر دون توقف، وتفلِت من آليات الموت الطبيعي.
تبدأ هذه الخلايا بترتيب صفوفها من خلال تكوين ورم صغير، لكنها قد تنتشر لاحقًا إلى أعضاء أخرى، مدمّرةً الأنسجة وسارقةً موارد الجسم. وتنشأ هذه الخلايا نتيجة طفرات جينية وتغييرات في الحمض النووي (DNA)، بسبب عوامل مثل التدخين، الإشعاع، التلوث، أو حتى الوراثة.
تصيب هذه الطفرات الجينات المسؤولة عن نمو الخلايا، فتمنحها القدرة على الانقسام اللامحدود، والهرب من رقابة الجسم.

    تشبه خيانة بعض الخلايا في الجسم خيانة الأفراد لأوطانهم؛ فكلٌّ منهما يسهم في تدمير الكيان الذي ينتمي إليه. وكما تنمو الخلايا الخائنة بصمت، تبدأ خيانة الأوطان سرًّا. وفي كلتا الحالتين، لا بد من ردع الخيانة. لذلك، تُبتر الخلايا الخائنة أو تُدمَّر بالعلاج الكيميائي، وكما لا بدّ للوطن من حماية نفسه ممن يخون، فالأمر ذاته ينطبق على الجسد: لا رحمة مع الخيانة.