الرئيسية / صحافة / مقالات / رحلتي إلى الصين.. رؤيا جديدة

رحلتي إلى الصين.. رؤيا جديدة

“الجهلُ ليلُ العقلِ، لكنه ليلٌ من غير أقمارٍ أو نجوم”!
بهذه الكلمات الغريبة، استقبلني صديقي الصيني جي زي تونغ، عندما التقينا عناقاً، بعد غياب طال أكثر من عقدين ونصف العقد. فقلت له: كنت كثيراً ما أسمعك تردد هذه العبارة عندما كنا شابين في الجامعة؛ من أين أتيت بهذه الكلمات، وماذا تقصد بها؟ فقال: تعلمتها من والدي، فقد كان يعشقُ الحكمة، وهو بدوره تعلمها من كتب حكيمنا العظيم كونفوشيوس. وكما يقول رسولكم الكريم “الحكمةُ ضالة المؤمن، أنى وجدها أخذها”، وسأشرح لك معنى كل ذلك بعد أن ترتاح قليلاً من السفر ومشقته.
تعرفت على جي في العام 1974، عندما كنت طالباً، خلال دراستي لمرحلة البكالوريوس في جامعة لويولا ماريماونت – كاليفورنيا. وكانت الصين قد فتحت لتوها الأبواب مشرعة للعالم، وبخاصةٍ أمام الاستثمارات الأميركية.
كان جي فقير الحال، ولا ينظر إلى ذاته إلا بمنظار عقدة الفقر والنقص التي كانت تقضُّ مضجعه، باعتباره كادحاً بائساً. وكثيراً ما وصف نفسه بكلمات طه حسين في روايته المعذبون في الأرض. فقد عمِلَ أبوه سائساً للقرود في مدينة ينشوان (شمال غرب الصين)، يسهرُ على تدريبها وتنظيفها من الحشرات الماصة للدماء، ومنها قمل القرود الذي انتشر آنذاك بين البشر والحيوان على حدٍ سواء. وقد وصف بلدة ينشوان في تلك السنوات الغابرة بأنها صحراء ميؤوسٌ منها، لا يصلها المطر إلا في فصل الشتاء القارس. وتضوَّر أهلُها جوعاً جراء الثورة الثقافية التي أعلنها الزعيم الراحل ماو تسي تونغ خلال عقد الستينيات من القرن الماضي. وقد ذكر لي حينها أن ما يزيد على 100 ألف إنسان قضوا في مقاطعة نيغيشيا بسبب الثورة الثقافية. وكان لأقاربه حظ وافر من التضحيات التي قدّمها أهل الصين في تلك الفترة.
عندما التقيته قبل أسبوعين، لمستُ علامات الترف والثراء بائنة على وجههِ وملابسه وسيارته الفارهة. فقد عرفت جي طالباً مكافحاً، يعمل في محطةٍ للوقود في جنوب لوس أنجليس، مقابل أجرٍ مقداره دولار واحد في الساعة. ولم يتمكن من العمل لأكثر من خمسِ ساعاتٍ يومياً، بسبب ضغط الجدول الدراسي والامتحانات المرهقة. وقد صبر على تلك المشقة إيماناً منه بقول كونفوشيوس الذي اعتاد ترديده، بأن على الإنسان أن يتعلم حتى ولو اضطر لبيع فراشه كي يدفع الأجر لمعلمه.
أوصلني جي إلى الفندق، وتواعدنا على اللقاء بعد ثلاثة أيام حتى أكمل المهام التي سافرت إلى الصين من أجلها، وعلى رأسها المشاركة في مؤتمر رؤساء الجامعات العربية-الصينية. ثم توقيع اتفاقيات التعاون مع عدد منها.
بعد انتهاء المؤتمر، اتصلتُ بجي وأخبرته بأن المؤتمر قد انتهى، وأني رهن إشارته. فحضر إلى الفندق وأخذني بسيارته الفارهة متوجهاً إلى بيته كي نتناول طعام العشاء.
في أثناء الرحلة إلى بيته، كنت أنظر من حولي في كل الاتجاهات كي أتعرف على مدينة ينشوان التي وصفها قبل ما يزيد على أربعة عقود بأنها مدينة بائسة متصحرة من قلة الزراعة، وأن أهلها بائسون يتضورون جوعاً. وكيف اضطر جي أن يعمل في محطة وقود مقابل دولار واحد في الساعة كي يقيم أوده. لكني أصبتُ بالصدمة والدهشة من الصورة المغايرة التي رسخت في ذهني.
فقد راقبتُ عداد المسافة، فوجدت أننا قطعنا مسافة تربو على الأربعين كيلومتراً قبل أن نصل إلى البيت، ولم أر تلة أو مرتفعاً أو أرضاً خاوية أو خالية من زرعٍ أو بناء سكني أو تجاري أو صناعي. ومن جملة الملاحظات الغريبة التي سجلتها في دفتر ملاحظاتي، أن تسمية الشوارع تمت بلغاتٍ ثلاث: الصينية والإنجليزية والعربية. وكانت شوارع المدينة المترامية الأطراف، على عكس ما وصفها جي، نظيفة إلى حد الترف.
وصلنا البيت الذي يشبه القصور الصينية الخلابة، وإذ بالخدم والحشم يُحضّرون أصناف الطعام المختلفة. وكانت المائدة ممتدة لعدة أمتار، وكأن جي قد دعا عشرين ضيفاً على الأقل إلى المأدبة. لكني تفاجأت بأني كنت الضيف الوحيد، إلى جانب زوجته وابنته الوحيدة.
قلت في نفسي: لا بد أنني في حلمٍ سعيد. لكن حقيقة الموقف فرضت علي أن أركز جُل انتباهي على ما يجري أمامي، وعلى كلام جي حول عملهِ المُدر أرباحاً كثيرة. وكنت أطرح عليه بين الفينة والأخرى أسئلة، شعر منها أنني أتهمه بشكل مُبطن بالفساد وخيانة الثورة الثقافية العظمى. لكن إجاباته كانت ذكية إلى الحد الذي أسكتني مدة طويلة بين السؤال والسؤال الذي يليه.
قلت: يا صديقي العزيز جي، أرجوك اشرح لي كيف تغيرت الأحوال إلى النحو الذي أراه؛ من دولارٍ واحدٍ للساعة في محطة وقود، إلى الملايين التي ألمس وجودها من دون أن أراها.
قال: أنتظر هذا السؤال منذ التقينا في المطار قبل ثلاثة أيام. شعرت به من نظراتك الحسودة للرخاء الذي أتمتع به، وهو بائن في وجهي وملابسي وسيارتي. والآن تشاهده وتحسه حقيقة في بيتي. عليك يا عبدالله (كما كان يناديني) أن تتعلم القواعد الخمس التالية:
أولاً: لا بد أن أذكرك بما تعلمته منك شخصياً، ومفاده أن الاستغراق في أي شيء يعمي بصيرتك عن كل شيء آخر! فقلت: بلى وما أزال أردد هذا الكلام لكل من حولي، رغم قناعتي التي تقول بأن الناس قد ملوا، وأن القلوب -كما ورد في الحديث الشريف- إذا كلّت ملّت. فلم يبق هناك إلا القليل ممن يستهويهم تحليل الأفكار التي تدور من حولهم. أرجوك أكمل كي نربط الأشياء والأفكار مع بعضها قبل أن أغرق في خضم منطقك وفلسفتك.
فقال: لا فائدة ترتجى من الحديث عن الإنجازات لأنها تمت على أرض الواقع، فاقفز إلى مشروعٍ آخر واعمل على إنجازه. ولا فائدة ترتجى من الحديث عن الماضي لأنه مضى. فكر فقط في كيفية إصلاح الحاضر، وكيف تدرأ خطر المستقبل، أو أن تقتنص الفرص المتاحة فيه. وإذا لم يفكر الإنسان بما هو بعيد، فإنه سيجد الأسى بين يديه قريباً!
قلت: لم أفهم ماذا تقصد.
قال: أرجوك لا تتغابى. هكذا فكر الصينيون بهذا القول، وهو للحكيم كونفوشيوس؛ لا بد لك أن تتلمس المستقبل، لأن عدم تلمسه سيؤدي بك إلى المهالك. لا بد من قراءة المستقبل بأي طريقة متاحة.
ثانياً: تجاوز الحدود في أي شيء لا يقلُ خطراً عن النقص به أو التراجع عنه.
ثالثاً: لا بد للذين يعيشون في سعادة أو حكمة ثابتة أن يتغيروا.
قلت: ماذا تعني بذلك؟
قال: يا عبدالله، لا يمكن أن تستمر الطريقة التقليدية في إعطائك الحلول نفسها لقضايا متطورة كانت قد تغيرت مع الزمان. فلكلِ زمانٍ مشاكله وقضاياه. والمشاكل التي صنعها جيلٌ ما من الأشخاص لا يحلها الجيل ذاته، بل تحلها رؤيا جديدة وأفكار جديدة!
رابعاً: الحياة بسيطة، وأبسط كثيراً مما يتخيلها معظم البشر، لكننا بطبيعتنا نميل إلى تعقيدها. فانظر إلى كل أمم الدنيا، كيف كانت وكيف أصبحت. وعلى سبيل المثال، كانت القوانين الناظمة لحياة الناس بسيطة والقواعد الاجتماعية معقدة قبل ثلاثين أو أربعين سنة، لكن البشر وضعوا قوانين كثيرة ومعقدة، وتحللوا من القواعد الاجتماعية الصارمة، أو جعلوها بسيطة.
قلت: بلى، فهذا منطق الأمور، وهذا ما لاحظته في بلدي الأردن.
خامساً: تذكر يا عبدالله بأن هناك وجهاً جميلاً لكل شيء، لكن لا يراه كل شخص.
قلت: وما علاقة هذا بحديثنا؟
قال: يبدو أنك تتغابى أكثر من اللازم. عليك أن تتذكر بأن تجاوز الحدود لا يقلُ خطراً عن النقص أو التراجع. وكي أوضح المراد من كلامي دعني أضرب لك المثال الحي التالي: أدت الثورة الثقافية العظمى إلى موت أكثر من عشرين مليون إنسان صيني. كانت التجربة مريرة ومؤلمة بكل المقاييس، لكنها أنتجت أمة جادة تحترم القوانين وتلتزم بها، لأن لهذه القوانين أسنانا قاطعة. وهذه الأمة هي نتاج تلك التجربة بحلوها ومرها، وهي الآن تتطلع إلى مستقبلٍ تصنعه بكفاحها لا أن يُفرض عليها. وهذا هو الوجه الجميل من الثورة الثقافية العظمى!
قلت: حبيبي جي. أذكر بأنك وصفت ينشوان، قبل أربعين سنة، بأنها بلدة بائسة! فما الذي جرى لها وكيف أصبحت كما رأيتها قبل قليل؟ رأيت مدينة جميلة، أجمل من لندن وباريس ونيويورك!
قال: تبلغ مساحة مقاطعة نيغيشا بما فيها العاصمة ينشوان ما يزيدُ قليلاً على ثلثي مساحة الأردن، ويبلغ عدد سكانها سبعة ملايين نسمة، وهو بقدر عدد الأردنيين تقريباً. كان منهم ثلاثمائة ألف عاطل عن العمل، لكنهم عملوا كفوائض عمالة غير منتجة. وحسب قول الفلاسفة الأوروبيين: من لا يعمل لا يوجد. فجئنا بهم جميعاً بعد التدريب العسكري، وأكسيناهم بالزي العسكري، وأطعمناهم بمتوسط ما يأكله الصيني يومياً، وهو كمية قليلة من الطعام، ومعظمه من النباتات والخضار. وطلبت منهم السلطات أن يُنجزوا المهمة الموكلة بهم، وهي شق قنوات ضخمة للمياه من النهر الأصفر، بأسرع ما يمكن. وقد استغرق العمل على القنوات عدة سنوات. وعندما تدفقت مياه النهر الأصفر في تلك القنوات شعرنا بأن مستقبل نيغيشيا قد بدأ منذ تلك اللحظة. أتذْكُر المسافة التي قطعناها من الفندق إلى هذا البيت؟ هي تُقدَر بأربعين كيلومتراً. وقد كان مقابل الطريق التي اتبعناها طريق زراعية تمتد على طول المسافة نفسها. ويقطع تلك الطريق شارعٌ زراعي يمتد إلى المسافة نفسها، أي بطول أربعين كيلومتراً. وبذلك تكون المساحة المحصورة بين الطريقين ألفاً وستمائة كيلومتر مربع، أي ما يعادل مليونا وستمائة ألف دونم، وكلها مزروعة بالذرة الصفراء. وحسب تقدير دائرة الزراعة المحلية نتوقع أن يصل محصول هذه القطعة البسيطة إلى ما يزيد على 640 ألف طن. وهي كافية لإطعام سكان المقاطعة كافة لمدة عام، وتصدير الفائض.
حبيبي عبدالله: لا يُذكَرُ العظماء إلا بالمهام العظيمة، ولا يُذكَرُ البسطاء إلا بالمهام البسيطة. وقدر الأمة يتناسب طردياً مع المهام التي أوكلها الرب بها. وأنتم كمسلمين أمة عظيمة، لكن مهامكم تراجعت إلى ذيل المهام العظام التي قرأتها في كتاب “الإسلام في الصين” للكاتب الصيني فنغ جين يوان (إبراهيم).
عندنا في الصين 56 قومية مختلفة، و56 لغة محكية، لكننا أمة واحدة، وكل الشعوب فيها تؤمن بأن قوتها تكمن في كونها تحت مظلة واحدة هي مظلة الأمة الصينية. أما أنتم العرب، فقد لاحظت أنكم أممٌ لا تؤمن إلا بالفردية، وليس فيكم من يؤمن بوحدة الأمة إلا في أضيق الحالات والظروف. مع أنه لا مستقبل لكم إلا بتوحدكم.
نصيحتي الأخيرة لكم: علاقاتكم مع الغرب، ومنذ العام 1092م وحتى هذه اللحظة، بُنيت على عدم الثقة والحرب والغزو. وقد نُهبت ثرواتكم، وقطّعت أوطانكم، وما تزالون تعانون. أما علاقتكم بنا فقد بُنيت على التجارة والمصالح. وقد قال رسولكم الكريم “اطلب العلم ولو في الصين”، وهذا تعبير مجازي عن البعد الجغرافي الذي يفصلنا.
لم نطمع أبداً بكم. ونحن لا نريد إلا التجارة وتبادل الخبرات. فلابد أن نتحاور ونتبادل الآراء. وأرجو أن أراك في المستقبل القريب.
عند تلك اللحظة كانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل. وكنت مرهقاً من كثافة الحديث وتفاصيله، فلم أتمكن من مجاراة منطق جي إلا بشق النفس!
ركبنا السيارة وتوجهنا إلى الفندق، وبقيتُ خلال الطريقِ أعاين كل شيءٍ يقعُ تحت بصري، فلم أجد إلا مدينة عصرية ومتطورة بكل ما في الكلمة من معنى، وتقع في دولةٍ لديها كل مقومات الدولة العظمى، بما فيها الحضارة العميقة، ومع ذلك تفاخر الدنيا بأنها من الدول النامية!
عندما وصلنا الفندق وترجلت من السيارة، وإذ بجي يضغط على يدي ويقول: تعلمنا من كونفوشيوس “قابل الأذى بالعدل وقابل الإحسان بالإحسان”. قلت له: نعم، وهذا ما تعلمناه في ديننا الحنيف!… لكني لم أدرك مغزى كلامه إلى هذه اللحظة!